فصل: أقاويل الصحابة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الرسالة **


*2*  ‏[‏ باب الاختلاف ‏]

قال‏:‏ فإني أجد أهل العم قديماً وحديثاً مختلفين في بعض أمورهم، فهل يسعهم ذلك‏؟‏

قال‏:‏ فقلت له‏:‏ الاختلاف من وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ محرم، ولا أقول ذلك في الآخر‏.‏

قال‏:‏ فما الاختلاف المحرم‏؟‏

قلت‏:‏ كل ما أقام الله به الحجة في كتابه أو على لسان نبيه منصوصاً بيناً‏:‏ لم يحل الاختلاف فيه لمن علمه‏.‏

وما كان من ذلك يحتمل التأويل، ويُدرك قياساً، فذهب المتأول أو القايس إلى معنى يحتمله الخبر أو القياس، وإن خالفه فيه غيره‏:‏ لم أقل أنه يُضَيَّق عليه ضِيقَ الخلاق في المنصوص‏.‏

قال‏:‏ فهل في هذا حجة تُبَين فرقك بين الاختلافين‏؟‏

قلت‏:‏ قال الله في ذم التفرق‏:‏ ‏{‏ وما تَفَرَّق الذين أوتوا الكتابَ إلا من بعد ما جاءتهم البينةُ ‏}‏ البينة‏:‏ 4

وقال جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏ ولا تكونوا كالذين تَفَرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات ‏}‏ آل عمران ‏:‏105

فَذَمَّ الاختلاف فيما جاءتهم به البينات‏.‏

فأما ما كُلِّفوا فيه الاجتهاد، فقد مَثَّلته لك بالقبلة والشهادة وغيرها‏.‏

قال‏:‏ فَمَثِّل لي بعض ما افترق عليه من رُوي قوله من السلف، مما لله فيه نصُّ حكم يحتمل التأويل، فهل يوجد على الصواب فيه دلالة‏؟‏

قلت‏:‏ قَلَّ ما اختلفوا فيه إلا وجدنا فيه عندنا دِلالة من كتاب الله أو سنة رسوله، أو قياساً عليهما، أو على واحد منهما‏.‏

قال‏:‏ فاذكر منه شيئاً‏؟‏

فقلت له‏:‏ قال الله‏:‏ ‏{‏ والمطلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بأنفسِهِنَّ ثلاثةَ قُرُوْء ‏}‏ البقرة ‏:‏228

فقالت عائشة‏:‏ الأقراء الأطهار، وقال بمثل معنى قولها زيدُ بن ثابت، وابن عمر، وغيرهما‏.‏

وقال نفر من أصحاب النبي‏:‏ الأقراء الحيض، فلا يُحِلُّوا المطلقةَ حتى تغتسل من الحيضة الثالثة‏.‏

قال‏:‏ فإلى أي شيء ترى ذهب هؤلى وهؤلى‏؟‏

قلت‏:‏ تجُمع الأقراء أنها أوقات، والأوقاتُ في هذا علامات تمرُّ على المطلقات، تحُبس بها عن النكاح حتى تستكملها‏.‏

وذهب من قال الأقراء الحيض - فيما نُرى والله أعلم - إلى أن قال‏:‏ إن المواقيت أقلُّ الأسماء، لأنها أوقات، والأوقات أقل مما بينها، كما حُدُوُد الشيء أقلُّ مما بينها، والحيضُ أقل من الطُّهر، فهو في اللغة أَولى للعِدَّة أن يكون وقتاً، كما يكونُ الهلال وقتاً فاصلاً بين الشهرين‏.‏

ولعله ذهب إلى أن النبي أمر في سَبيْ أوطاسٍ أن يُسْتَبْرَينَ قبل أن يُوطَينَ بحيضة، فذهب إلى أن العِدة استبراء، وأن الاستبراء حيضٌ، وأنه فرَقَ بين استبراء الأمة والحرة، وأن الحرة تُستبرأ بثلاث حِيَض كواملَ، تخرج منها إلى الطُّهر كما تُستبرأ الأمة بحيضة كاملة، تخرج منها إلى الطُّهر‏.‏

فقال‏:‏ هذا مذهب، فكيف اخترتَ غيره، والآية محتملة للمعنيين عندك‏؟‏

قال‏:‏ فقلت له‏:‏ إن الوقت برؤية الأهِلَّة إنما هو علامة جعلها الله للشهور، والهلالُ غير الليل والنهار، وإنما هو جِماع لثلاثين، وتسعٍ وعشرين، كما يكون الهلال الثلاثون والعشرون جماعاً يُستأنف بعده العدد، وليس له معنى هنا، وأن القُرْء وإن كان وقتاً فهو من عدد الليل والنهار، والحيضُ والطهر في الليل والنهار من العدة، وكذلك شُبِّه الوقت بالحدود، وقد تكون داخلة فيما حُدَّت به، وخارجةً منه غيرَ بائن منها، فهو وقت معنى‏.‏

قال‏:‏ وما المعنى‏؟‏

قلت‏:‏ الحيض هو أن يُرخِيَ الرَّحمُ الدمَ حتى يظهر، والطُّهر أن يَقْري الرَّحِمُ الدمَ فلا يظهرُ، ويكون الطهر والقَرْي الحبس لا الإرسال، فالطهر - إذ كان يكون وقتاً - أولى في اللسان بمعنى القُرء، لأنه حبْس الدم‏.‏

وأمر رسول الله عمرَ حين طلَّق عبدُ الله بن عمر امرأته حائضاً أن يأمره برَجعتها وحَبسِها حتى تطهر، ثم يطلِّقُها طاهراً من غير جماع، وقال رسول الله‏:‏ فتلك العِدَّةُ التي أمر الله أن يُطلَّق لها النساءُ‏(‏1‏)‏ رواه مالك 2/96 والشيخان‏.‏‏(‏1‏)‏ ‏.‏

يعني قول الله - والله أعلم - إذا طلَّقتُمُ النساءَ فطلِّقوهنَّ لِعِدَِّتهِنَّ ‏}‏الطلاق ‏:‏1، فأخبر رسول الله أن العدةَ الطهرُ دون الحيض‏.‏

وقال الله‏:‏ ‏{‏ ثلاثة قروء ‏}‏ وكان على المُطَلَّقة أن تأتي بثلاثة قروء، فكان الثالثُ لو أبطأ عن وقته زماناً لم َتحِلَّ حتى يكون، أو تُويَسَ من المحيض، أو ُيخافَ ذلك عليها، فتَعْتَدَّ بالشهور، لم يكن للغُسل معنى، لأن الغسل رابعٌ غيرُ ثلاثة، ويلزم مَن قال‏:‏ الغسل عليها أن يقول‏:‏ لو أقامت سنةً وأكثر لا تغتسل لم تحِلَّ‏!‏‏!‏

فكان قول من قال الأقراء الأطهار أشبهَ بمعنى كتاب الله، واللسانُ واضح على هذه المعاني، والله أعلم‏.‏

فأما أمر النبي أن يُستبرأ السَّبْي بحيضة فبالظاهر، لأن الطهر إذا كان متقدِّماً للحيضة ثم حاضت الأمة حيضة كاملة صحيحة بَرِئَت من الحَبَلِ في الطهر، وقد ترى الدمَ فلا يكون صحيحاً، إنما يصح حيضةً بأن تُكمل الحيضة فبأي شيء من الطهر كان قبل حيضة كاملة فهو براءة من الحَبَل في الظاهر‏.‏

والمعتدة تَعْتدُّ بمعنيين‏:‏ استبراءٌٍ، ومعنى غيرُِ استبراءٍ مع استبراء، فقد جاءت بحيضتين وطُهرين وطهرٍ ثالث، فلو أريد بها الاستبراء كانت قد جاءت بالاستبراء مرتين، ولكنه أريد بها مع الاستبراء التَعَبُّد‏.‏

قال‏:‏ أفتوجدوني في غير هذا ما اختلفوا فيه مثل هذا‏؟‏

قلت‏:‏ نعم، وربما وجدناه أوضحَ، وقد بيَّنا بعض هذا فيما اختلفت الرواية فيه من السنة، وفيه دلالة لك على ما سألتَ عنه، وما كان في معناه إن شاء الله‏.‏

وقال الله‏:‏ ‏{‏ والمطلقاتُ يَتَرَبَّصْن بأنفسهن ثلاثةَ قروء ‏}‏ البقرة ‏:‏288

وقال‏:‏ ‏{‏ واللائي يَئِسْن من المحيض من نسائكم إن ارتَبتُم، فعِدَّتهُنَّ ثلاثةُ أشهرٍ، واللائي لم يحِضْنَ، وأولاتُ الأحمالِ أجلُهُنَّ أن يضعْنَ حملَهن ‏}‏ الطلاق ‏:‏4

وقال‏:‏‏{‏ والذين يُتَوَفَّون منكم، ويَذَرون أزواجاً يَتَرَبَّصن بأنفسهن أربعةَ أشهر وعَشراً ‏}‏ البقرة ‏:‏234

فقال بعض أصحاب رسول الله‏:‏ ذكر الله المطلقاتِ أن عدة الحوامل أن يضعْن حملَهن، وذكر في المتوفَّى عنها أربعةَ أشهر وعشراً، فعلى الحامل المتوفى عنها أن تعتدَّ أربعة أشهر وعشراً، وأن تضع حمْلَها، حتى تأتي بالعدتين معاً إذا لم يكن وضعُ الحمل انقضاءَ العدة نصاً إلا في الطلاق‏.‏

كأنه يذهب إلى أن وضع الحمل براءةٌ، وأن الأربعة الأشهر وعشراً تَعَبُّدٌ، وأن المتوفى عنها تكون غيرَ مدخول بها، فتأتي بأربعة أشهر، وأنه وجب عليها شيءٌ من وجهين، فلا تسقط أحدهما، كما لو وجبَ عليها حقَّان لرجلين لم يُسقط أحدُهما حقَّ الآخر، وكما إذا نَكَحَت في عدتها، وأُصيبت اعتدَّت من الأول، واعتدَّت من الآخِرِ‏.‏

قال‏:‏ وقال غيره من أصحاب رسول الله‏:‏ إذا وضعَتْ ذا بطنِها، فقد حَلَّت، ولو كان زوجها على السرير‏.‏

قال الشافعي‏:‏ فكانت الآية محتملةَ المعنيين معاً، وكان أشبهَهَما بالمعقول الظاهرِ أن يكون الحملُ انقضاءَ العدة‏.‏

قال‏:‏ فدلت سنة رسول الله على أن وضعَ الحمل آخرُ العدة في الموت، مِثلُ معناه الطلاق‏.‏ ُ

أخبرنا سفيان عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن أبيه أن سُبَيْعَةَ الأسلَمِية وضعت بعد وفاة زوجها بليالٍ، فمَرَّ بها أبو السَّنابل بن بَعْكَكٍ، فقال‏:‏ قد تَصَنَّعتِ للأزواج‏!‏ إنها أربعةَ أشهر وعشراً، فذكرت ذلك سُبَيعة لرسول الله، فقال‏:‏ كذب أبو السنابل، أَو ليس كما قال أبو السنابل، قد حَلَلتِ فتزوجي‏.‏ ‏(‏1‏)‏ رواه الشيخان وأحمد وظاهره أنه مرسل لكن سياقه عند من ذكرت يرد ذلك فعند البخاري أن ابن شهاب كتب إليه أن عبيد الله بن عبد الله أخبره عن أبيه أنه كتب إلى ابن الأرقم أن يسأل سبيعة الأسلمية‏.‏‏.‏‏.‏

‏(‏1‏)‏

فقال‏:‏ أما ما دلت عليه السنة فلا حجة في أحد خالف قولُه السنةَ، ولكن اذكُرْ من خلافهم ما ليس فيه نصُّ سنة مما دل عليه القُرَآن نصاً واستنباطاً، أو دلَّ عليه القياس‏؟‏

فقلت له‏:‏ قال الله‏:‏ ‏{‏ للذين يُؤْلون من نسائهم تَرَبُّصُ أربعة أشهر، فإن فاءوا، فإن الله غفور رحيم، وإن عَزَمُوا الطلاقَ، فإن الله سميع عليم ‏}‏البقرة ‏:‏226،227

فقال الأكثر ممن رُوي عنه من أصحاب النبي عندنا‏:‏ إذا مضت أربعة أشهر وُقف المُولي، فإما أن يفيء، وإما أن يُطَلِّق‏.‏

وروي عن غيرهم من أصحاب النبي‏:‏ عزيمةُ الطلاق انقضاءُ أربعة أشهر‏.‏

ولم ُيحفظ عن رسول الله في هذا - بأبي هو وأمي - شيئاً‏(‏1‏)‏ الشافعي يجعل الجار والمجرور نائباً للفاعل مع وجود المفعول وهي لغة‏.‏‏(‏1‏)‏ ‏.‏

قال‏:‏ فأي القولين ذهبتَ‏؟‏

قلت‏:‏ ذهبت إلى أن المُولي لا يلزمه طلاقٌ، وأن امرأته إذا طلبت حقها منه لم أَعرِض له حتى تمضي أربعة أشهر، فإذا مضت أربعة أشهر قلت له‏:‏ فِئ أو طلِّقْ، والفيئةُ الجماعُ‏.‏

قال‏:‏ فكيف اخترتَه على القول الذي يخالفه‏؟‏

قلت‏:‏ رأيته أشبه بمعنى كتاب الله وبالمعقول‏.‏

قال‏:‏ وما دل عليه من كتاب الله‏؟‏

قلت‏:‏ لما قال الله‏:‏ ‏{‏ للذين يُؤلون من نسائهم تَرَبُّصُ أربعةَ اشهر ‏}‏‏:‏ كان الظاهر في الآية أن من أنظَرَه الله أربعة أشهر في شيء، لم يكن له عليه سبيل حتى تمضي أربعةُ أشهر‏.‏

قال‏:‏ فقد يحتمل أن يكون الله عز وجل جعل له أربعة أشهر يفيءُ فيها، كما تقول‏:‏ قد أجَّلتك في بناء هذه الدار أربعة اشهر تفرُغُ فيها منها‏؟‏

قال‏:‏ فقلت له‏:‏ هذا لا يتوهمه مَن خوطب به حتى يُشترط في سياق الكلام، ولو قال قد أجلتك فيها أربعة أشهر‏:‏ كان إنما أجله أربعة أشهر لا يجد عليه سبيلاً حتى تنقضي ولم يفرُغ منها، فلا يُنسب إليه أن لم يفرغ من الدار، وأنه أخلف في الفراغ منها ما بقي من الأربعة الأشهر شيء، فإذا لم يبقَ منها شيء لَزِمَه اسم الخُلْف، وقد يكون في بناء الدار دلالةٌ على أن يقارِبَ الأربعةَ، وقد بقي منها ما يحيط العلم أنه لا يبنيه فيما بقي من الأربعة‏.‏

وليس في الفيئة دلالةٌ على أن لا يفيء الأربعة إلا مُضِيُّها لأن الجماع يكون في طَرفة عين، فلو كان على ما وصفتَ تَزَايَلَ حاله حتى تمضي أربعة أشهر، ثم تَزَايل حاله الأولى، فإذا زايلها صار إلى أن الله عليه حقاً، فإما أن يفيء وإما أن يطلِّق‏.‏

فلو لم يكن في آخر الآية ما يدل على معناها غيرُ ما ذهبتَ إليه، كان قوله أَولاهما بها، لما وصفنا، لأنه ظاهرها‏.‏

والقُرَآن على ظاهره، حتى تأتي دلالة منه أو سنة أو إجماع بأنه على باطن دون ظاهر‏.‏

قال‏:‏ فما في سياق الآية ما يدل على ما وصفتَ‏؟‏

قلت‏:‏ لما ذكر الله عز وجل أن للمُولي أربعةَ أشهر، ثم قال‏:‏ ‏{‏ فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم، وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم ‏}‏، فذكر الحُكمين معاً بلا فصل بينهما‏:‏ أنهما إنما يقعان بعد الأربعة الأشهر، لأنه إنما جَعَل عليه الفيئة أو الطلاق، وجعل له الخيار فيهما في وقت واحد، فلا يتقدم واحد منهما صاحبه، وقد ذُكرا في وقت واحد، كما يقال له في الرهن افْدِهِ أو نبيعَه عليك بلا فصل، وفي كل ما خُيرِّ فيه‏:‏ افعل كذا أو كذا، بلا فصل‏.‏

ولا يجوز أن يكونا ذُكرا بلا فصل، فيقالَ‏:‏ الفيئة فيما بين أن يُولي أربعة أشهر وعزيمةُ الطلاق انقضاءُ الأربعة الأشهر، فيكونان حكمين ذكرا معاً، يُفسخ في أحدهما، ويُضيَّق في الآخر‏.‏

قال‏:‏ فأنت تقول‏:‏ إن فاءَ قبل الأربعة الأشهر فهي فيئة‏؟‏

قلت‏:‏ نعم، كما أقول‏:‏ إن قضيتَ حقاً عليك إلى أجل قبل محله، فقد برئتَ منه، وأنت محسن متسرِّع بتقديمه قبل يحلَُّ عليك‏.‏

فقلت له‏:‏ أرأيت من الإثم كان مُزمَعَاً على الفيئة في كل يوم إلا أنه لم يجامع حتى تنقضي أربعة أشهر‏؟‏

قال‏:‏ فلا يكون الإزماع على الفيئة شيءً حتى يفيء، والفيئة الجماعُ إذا كان قادراً عليه‏.‏

قلت‏:‏ ولو جامع لا ينوي فيئة خرج من طلاق الإيلَى، لأن المعنى في الجماع‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

قلت‏:‏ وكذلك لو كان عازماً على ان لا يفيء، يحلفُ في كل يوم ألا يفيء، ثم جامع قبل مُضِي الأربعة الأشهر بطرْفة عين‏:‏ خرج من طلاق الإيلَى‏؟‏ وإن كان جماعه لغير الفيئة خرج به من طلاق الإيلى‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

قلت‏:‏ ولا يصنعُ عزمُهُ على ألا يفيء‏؟‏ ولا يمنعه جماعه بلذَّة لغير الفيئة، إذا جاء بالجماع‏:‏ مِن أن يخرج به من طلاق الإيلى عندنا وعندك‏؟‏

قال‏:‏ هذا كما قلتَ، وخروجُهُ بالجماع على أي معنى كان الجماع‏.‏

قلت‏:‏ فكيف يكون عازماً على أن لا يفيء في كل يوم، فإذا مضت أربعة أشهر لزمه الطلاق، وهو لم يعزم عليه، ولم يتكلم به‏؟‏ أترى هذا قولاً يصح في العقول لأحد‏؟‏‏!‏

قال‏:‏ فما يُفسده من قبل العقول‏؟‏

قلت‏:‏ أرأيت إذا قال الرجل لامرأته‏:‏ والله لا أقربُك أبداً‏:‏ أهو كقوله‏:‏ أنت طالق إلى أربعة أشهر‏؟‏

قال‏:‏ إن قلتُ نعم‏؟‏

قلتُ‏:‏ فإن جامع قبل الأربعة‏؟‏

قال‏:‏ فلا، ليس مثلَ قوله‏:‏ أنتِ طالق إلى أربعة أشهر‏.‏

قال‏:‏ فتكلُّمُ المُولي بالإيلى ليس هو طلاقً، إنما هي يمين، ثم جاءت عليها مُدة جعلتها طلاقاً، أيجوز لأحد يعقل من حيث يقولُ أن يقول مثل هذا إلا بخبر لازم‏؟‏‏!‏

قال‏:‏ فهو يدخل عليك مثلُ هذا‏.‏

قلت‏:‏ وأين‏؟‏

قال‏:‏ أنت تقول إذا مضت أربعة أشهر وُقف، فإن فاء وإلا جُبر على أن يُطلِّق‏.‏

قلت‏:‏ ليس من قِبَل أن الإيلى طلاق، ولكنها يمين جعل الله لها وقتاً مَنَعَ بها الزوجَ من الضِّرار، وحكم عليه إذا كانت أن جَعَل عليه إما أن يفيء، وإما أن يُطَلق، وهذا حكم حادث بمُضِي أربعة الأشهر، غيرُ الإيلى، ولكنه مؤتَنَف ُيجبر صاحبه على أن يأتي بأيهما شاء‏:‏ فيئةٌٍ أو طلاقٌٍ، فإن امتنع منهما أُخذ منه الذي يُقدر على أخذه منه، وذلك أن يُطلَّق عليه، لأنه لا يحل أن ُيجامَعَ عنه‏.‏

واختلفوا في المواريث، فقال زيد بن ثابت ومن ذهب مذهبه‏:‏ يعطى كل وارث ما ُسمِّي له، فإن فَضَل فضل ولا عَصَبَة للميت ولا ولاءَ‏:‏ كان ما بقي لجماعة المسلمين‏.‏

وعن غيره منهم‏:‏ أنه كان يردُّ فضل المواريث على ذوي الأرحام، فلو أن رجلاً ترك أخته، ورثَتْه النصفَ ورُدَّ عليها النصفُ‏.‏

فقال بعض الناس‏:‏ لمَ لم تردَّ فضل المواريث‏؟‏

قلت‏:‏ استدلالاً بكتاب الله‏.‏

قال‏:‏ وأين يدل كتاب الله على ما قلت‏؟‏

قلت‏:‏ قال الله‏:‏ ‏{‏ إنِ امرؤٌ هلك ليس له ولدٌ وله أختٌ فلها نصفُ ما ترك، وهو يرِثها إن لم يكن لها ولدٌ ‏}‏ النساء‏:‏ 176

وقال‏:‏ ‏{‏ وإن كانوا أخوةً رجالاً ونساءً، فللذَّكر مثلُ حظِّ الأنثيين ‏}‏ النساء ‏:‏176

فذكر الأخت منفردةً، فانتهى بها جل ثناؤه إلى النصف، والأخَ منفرداً، فانتهى به إلى الكلِّ وذكر الأخوة والأخوات، فجعل للأخت نصفَ ما للأخ‏.‏

وكان حكمه - جل ثناؤه - في الأخت منفردةً ومع الأخ سواءً، بأنها لا تساوي الأخَ، وأنها تأخذ النصف مما يكون له من الميراث‏.‏

فلو قلتَ في رجل مات، وترك أخته‏:‏ لها النصفُ بالميراث وأردُدُ عليها النصف‏:‏ كنتَ قد أعطيتها الكل منفردة، وإنما جعل الله لها النصف في الانفراد والاجتماع‏.‏

فقال‏:‏ فإني لست أعطيها النصف الباقي ميراثاً، إنما أعطيها إياه رداً‏.‏

قلت‏:‏ وما معنى رداً أشيء استحسنته، وكان إليك أن تضعه حيث شئتَ‏؟‏ فإن شئتَ أن تعطيه جيرانه أو بعيدَ النسب منه، أيكون ذلك لك‏؟‏‏!‏

قال‏:‏ ليس ذلك للحاكم، ولكن جعلتُهُ رداً عليها بالرَّحِم‏.‏

ميراثاً‏؟‏

قال‏:‏ فإن قلتُه‏؟‏

قلت‏:‏ إذن تكون ورَّثتها غيرَ ما ورَّثها الله‏.‏

قال‏:‏ فأقول‏:‏ لك ذلك، لقول الله‏:‏ ‏{‏ وأُولوا الأرحام بعضُهم أولى ببعض في كتاب الله ‏}‏ الأنفال ‏:‏75

فقلت له‏:‏ ‏{‏ وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض ‏}‏ نزلت بأن الناس توارثوا بالحِلف، ثم توارثوا بالإسلام والهجرة، فكان المهاجر يرث المهاجر، ولا يرثه من ورثته مَن لم يكن مهاجراً، وهو أقرب إليه ممن وَرِثه، فنزلت ‏{‏ وأولوا الأرحام ‏}‏ الآية على ما فُرِضَ لهم‏.‏

قال‏:‏ فاذكر الدليل على ذلك‏؟‏

قلت‏:‏ ‏{‏ وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ‏}‏‏:‏ على ما فُرِضَ لهم، ألا ترى أن من ذوي الأرحام من يرث، ومنهم من لا يرث، وأن الزوج يكون أكثرَ ميراثا من أكثر ذوي الأرحام ميراثاً‏؟‏ وأنك لو كنت إنما تُوَرِّث بالرحم كانت رحم البنت من الأب كرحم الابن‏؟‏ وكان ذوو الأرحام يرثون معاً، ويكونون أحقَّ من الزوج الذي لا رحم له‏؟‏‏!‏

ولو كانت الآية كما وصفتَ كنتَ قد خالفتها فيما ذكرنا، في أن يترك أخته ومَوَاليَه فتُعطيَ أخته النصف، ومواليه النصف، وليسوا بذَوِي أرحام، ولا مفروضًٍ لهم في كتاب الله فرضٌ منصوص‏.‏

واختلفوا في الجد، فقال زيد بن ثابت، وروي عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود‏:‏ يُوَرَّث معه الأخوة‏.‏

وقال أبو بكر الصديق وابن عباس، وروي عن عائشة وابن الزبير وعبد الله بن عُتبة‏:‏ أنهم جعلوه أباً، وأسقطوا الإخوة معه‏.‏

فقال‏:‏ فكيف صرتم إلى أن ثبَّتم ميراث الإخوة مع الجد‏؟‏ أَبِدِلالةٍ من كتاب الله أو سنةٍ‏؟‏

قلت‏:‏ أما شيء مبيَّنٌ في كتاب الله أو سنةٍ فلا أعلمه‏.‏

قال‏:‏ فالأخبارُ متكافئة، والدلائلُ بالقياس مع من جعله أباً وحَجَبَ به الأخوةَ‏.‏

قلت‏:‏ وأين الدلائل‏؟‏

قال‏:‏ وجدت اسم الأُبُوَّة تلزمه، ووجدتكم مجتمعين على أن تحجُبُوا به بني الأم، ووجدتكم لا تنقُصونه من السدس، وذلك كله حكمُ الأب‏.‏

فقلت له‏:‏ ليس باسم الأبوة فقط نُوَرِّثه‏.‏

قال‏:‏ وكيف ذلك‏؟‏

قلت‏:‏ أجد اسم الأبوة يلزمه، ولا يرث‏.‏

قال‏:‏ وأين‏؟‏

قلت‏:‏ قد يكون دونه أبٌ، واسم الأبوة تلزمه، وتلزم آدمَ، وإذا كان دون الجد أبٌ لم يرث، ويكون مملوكاً وكافراً وقاتلاً فلا يرث، واسم الأبوة في هذا كله لازم له، فلو كان باسم الأبوة فقط يرث وَرِث في هذه الحالات‏.‏

وأما حَجْبُنا به بني الأم، فإنما حجبنا به خبراً، لا باسم الأبوة، وذلك أنا نحجب بني الأم ببنت ابن ابنٍ مُتَسَفِّلةٍ‏.‏

وأما أنا لم نَنْقصه من السدس، فلسنا نَنقص الجدة من السدس‏.‏

وإنما فعلنا هذا كلَّه اتباعاً، لا أن حكم الجد إذ وافق حكم الأب في معنى كان مثلَه في كلِّ معنىً، ولو كان حكم الجد إذا وافق حكم الأب في بعض المعاني كان مثلَه في كل المعاني‏:‏ كانت بنتُ الابن المتَسَفِّلة موافقةً له، فإنا نحجب بها بني الأم، وحكمُ الجدة موافق له، فإنا لا ننقصها من السدس‏.‏

قال‏:‏ فما حجتكم في ترك قولنا نحجُبُ بالجد الإخوة‏؟‏

قلت‏:‏ بُعدُ قولكم من القياس‏.‏

قال‏:‏ فما كنا نراه إلا بالقياس نفسه‏؟‏

قلت‏:‏ أرأيت الجدَّ والأخَ‏؟‏ أيُدلي واحد منهما بقرابة نفسه، أم بقرابة غيره‏؟‏

قال‏:‏ وما تعني‏؟‏

قلت‏:‏ أليس إنما يقول الجد‏:‏ أنا أبو أبي الميت‏؟‏‏!‏ ويقول الأخ‏:‏ أنا ابن أبي الميت‏؟‏‏!‏

قال‏:‏ بلى‏.‏

قلت‏:‏ وكلاهما يُدلي بقرابة الأب بقدْر موقعه منها‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

قلت‏:‏ فاجعلِ الأب الميت، وتَرَكَ ابنه وأباه، كيف ميراثهما منه‏؟‏

قال‏:‏ لابنه خمسةُ أسداس، ولأبيه السدسُ

قلت‏:‏ فإذا كان الابن أولى بكثرة الميراث من الأب، وكان الأخُ من الأب الذي يُدلي الأخُ بقرابته، والجدُّ أبو الأب من الأب الذي يُدلي بقرابته كما وصفتَ‏:‏ كيف حجبتَ الأخ بالجد‏؟‏‏!‏ ولو كان أحدهما يكون محجوباً بالآخر انْبَغَى أن ُيحجب الجد بالأخ، لأنه أولاهما بكثرة ميراث الذي يُدليان معاً بقرابته، أو ُتجعلَ للأخ خمسةَ أسداس، وللجد سدسًٌ‏.‏

قال‏:‏ فما منعك من هذا القول‏؟‏

قلت‏:‏ كلُّ المختلفين مجتمعون على أن الجد مع الأخ مثلُه أو أكثر حظاً منه، فلم يكن لي عندي خلافُهم، ولا الذهابُ إلى القياس، والقياسُ مخرِج من جميع أقاويلهم‏.‏

وذهبتُ إلى اثبات الإخوة مع الجد، أَولى الأمرين، لما وصفتُ من الدلائل التي أوجدنيها القياسُ

مع أن ما ذهبتُ إليه قولُ الأكثر من أهل الفقه بالبلدان قديماً وحديثاً‏.‏

مع أن ميراث الإخوة ثابت في الكتاب، ولا ميراث للجد في الكتاب، وميراث الإخوة أَثبتُ في السنة من ميراث الجد‏.‏

*2*  ‏[‏ أقاويل الصحابة ‏]‏

فقال‏:‏ قد سمعت قولك في الإجماع والقياس، بعد قولك في حكم كتاب الله وسنة رسوله، أرأيت أقاويل أصحاب رسول الله إذا تفرقوا فيها‏؟‏

فقلت‏:‏ نصير منها إلى ما وافق الكتاب، أو السنة، أو الإجماع، أو كان أصحَّ في القياس‏.‏

قال‏:‏ أفرأيت إذا قال الواحد منهم القولَ لا ُيحفظ عن غيره منهم فيه له موافقةً، ولا خلافاً أتجد لك حجة باتباعه في كتاب أو سنة أو أمر أحمع الناس عليه، فيكونَ من الأسباب التي قلتَ بها خبراً‏؟‏

قلت له‏:‏ ما وجدنا في هذا كتاباً ولا سنةً ثابتة، ولقد وجدنا أهل العلم يأخذون بقول واحدهم مرة، ويتركونه أخرى، ويتفرقوا في بعض ما أخذوا به منهم‏.‏

قال‏:‏ فإلى أي شيء صرتَ من هذا‏؟‏

قلت‏:‏ إلى اتباع قول واحد، إذا لم أجد كتاباً ولا سنة ولا إجماعاً ولا شيئاً في معناه ُيحكم له بحكمه، أو وُجد معه قياس‏.‏

وقلَّ ما يُوجَد من قول الواحد منهم، لا يخالفه غيره من هذا‏.‏

*2* ‏[‏منزلة الإجماع والقياس ‏]‏

قال‏:‏ فقد حكمتَ بالكتاب والسنة، فكيف حكمتَ بالإجماع، ثم حكمتَ بالقياس، فأقمتها مع كتابٍ أو سنة‏؟‏

فقلت‏:‏ إني وإن حكمتُ بها كما احكم بالكتاب والسنة‏:‏ فأصلُ ما أحكم به منها مفترقٌ‏.‏

قال‏:‏ أفيجوز أن تكون أصولٌ مفرَّقة الأسباب ُيحكم فيها حكماً واحداً‏؟‏

قلت‏:‏ نعم، ُيحكم بالكتاب والسنة المجتمع عليها، الذي لا اختلاف فيها، فنقول لهذا‏:‏ حكمنا بالحق في الظاهر والباطن‏.‏

وُيحكم بالسنة قد ُرويت من طريق الانفراد، لا يجتمع الناس عليها، فنقول حكمنا بالحق في الظاهر، لأنه قد يمكن الغلط فيمن روى الحديث‏.‏

ونحكم بالإجماع ثم القياسِ، وهو أضعف من هذا، ولكنها منزلةُ ضرورة، لأنه لا يحل القياسُ والخبرُ موجودٌ، كما يكون التيمم طهارةً في السفر عند الإعواز من الماء، ولا يكون طهارةً إذا وُجد الماء، إنما يكون طهارةً في الإعواز‏.‏

وكذلك يكون ما بعد السنة حجةً إذا أَعوَزَ من السنة‏.‏

وقد وصفتُ الحجة في القياس، وغيره قبل هذا‏.‏

قال‏:‏ أفتجد شيئا شبهه‏.‏

قلت‏:‏ نعم، أقضي على الرجل بعلمي أنَّ ما ادُّعي عليه كما ادُّعي، أو إقرارِه، فإن لم أعلم ولم يُقِرَّ قضيتُ عليه بشاهدين، وقد يغلِطان ويهِمَان، وعلمي وإقرارُه أقوى عليه من شاهدين، وأقضي عليه بشاهد ويمين، وهو أضعف من شاهدين، ثم أقضي عليه بنكوله عن اليمين ويمينِ صاحبه، وهو أضعف من شاهد ويمين، لأنه قد ينكُل خوفَ الشهرة واستصغارَ ما يحلف عليه، ويكون الحالف لنفسه غيرَ ثقة وحريصاً فاجراً‏.‏

آخر كتاب الرسالة والحمد لله وصلى الله على محمد‏.‏